الاختلاف في الدين ، وحجب نوره بالبدع ، وإخطاء معناه بالتأويل ، وإحداث ما ليس منه بسبيل. فمنّ الله على البشر ببداية تاريخ بنسخ جميع تلك التواريخ. ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية ، وبين ما يلحق ، وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه» (١).
الشبهة الرابعة :
إنّ القرآن المكي تأثر بكل الأوساط المنحطة. ودليل ذلك انفراده بالشدة ، والعنف ، والتقريع ، والتوبيخ ، والغلظة ، والقساوة. ودليل ذلك أيضا قصر آياته ، وسوره ، وخلوه من التشريع ، والتفصيل ، والأحكام الشرعية العملية ، وخلوه من الجمال الأسلوبي ، والفصاحة ، والبيان.
تفنيد هذه الشبهة :
يمكننا تفنيد هذه الشبهة من خلال ثلاثة أمور :
أولا : إنّ الادعاء بتأثر القرآن المكي بكل الأوساط المنحطة بسبب انفراده بالشدة ، والعنف ، والغلظة ، ادعاء باطل ، ومتهور عقلا ودليلا ومعنى.
فالعقلانية السليمة المبصرة ، والعالمة تعلم أن الوسط الذي نزل فيه القرآن وسط عنف ، وصلافة ، وعناد ؛ فكان أسلوبه مناسبا لمثل هذا الوسط في المخاطبة. فجاء عنيفا ليعنف عقولهم ، وجاء شديدا ليسفّه أحلامهم. فهو لم يخرج عن جادة الصواب في المخاطبة ، فهذا هو الأسلوب المناسب لمخاطبتهم. وهو لم يخرج أبدا عن جادة الصواب في الأدب ، والحشمة ، واللياقة. وهو لم يصدف عن جادة الحكمة في إقامة الدليل
__________________
(١) محمد عبد العظيم ـ مناهل العرفان. ج ١ ـ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥.