وقوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) راجع إلى الفتيات ؛ وذلك أنّ الفتاة إذا أرادت التحصّن فحينئذ يمكن ويتصوّر أن يكون السيد مكرها ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه ، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصوّر أن يقال للسيد : لا تكرهها : لأنّ الإكراه لا يتصوّر فيها وهي مريدة للفساد ، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه ، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين / : فقال بعضهم : قوله : (إِنْ أَرَدْنَ) راجع إلى الأيامى في قوله : (وَأَنْكِحُوا) ٣٨ ب (الْأَيامى مِنْكُمْ) ، وقال بعضهم : هذا الشرط في قوله : (إِنْ أَرَدْنَ) ملغيّ ونحو هذا ممّا هو ضعيف ، والله الموفق للصواب برحمته.
قلت : وما اختاره ع (١) هو الذي عوّل عليه ابن العربيّ (٢) ونصّه ، وإنما ذكر الله تعالى إرادة التحصّن من المرأة ؛ لأنّ ذلك هو الذي يصور الإكراه ، فأمّا إذا كانت هي راغبة في الزنا ، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إن شاء الله ، انتهى من «الأحكام» وقرأ ابن مسعود (٣) وغيره : «فإنّ الله من بعد إكراههنّ [لهنّ] (٤) غفور رحيم» ثم عدّد سبحانه نعمه على المؤمنين في قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) ليقع التحفظ ممّا وقع أولئك فيه.
(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧)
__________________
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٨٢)
(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٣٨٦)
(٣) وقرأ بها ابن عباس ، وسعيد بن جبير.
قال أبو الفتح : اللام في «لهن» متعلقة ب «غفور» ؛ لأنها أدنى إليها ، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل ، فكأنه قال : فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة ب «رحيم» ، وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر ؛ ألا تراك تقول : هذا مارّ بزيد أمس ، فتعمل اسم الفاعل ، وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في «لهن» بنفس «رحيم».
ينظر : «المحتسب» (٢ / ١٠٨) ، و «الكشاف» (٣ / ٢٤٠) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ١٨٢) ، وزاد نسبتها إلى جابر بن عبد الله.
(٤) سقط في ج.