وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية : النور في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ، ويستعمل مجازا فيما صحّ من المعاني ولاح ؛ فيقال : كلام له نور ، ومنه الكتاب المنير ، والله تعالى ليس كمثله شيء فواضح أنّه ليس من الأضواء المدركة ، ولم يبق إلّا أنّ المعنى منوّر السموات والأرض ، أي : به وبقدرته أنارت أضواؤها ، واستقامت أمورها ، كما تقول : الملك نور الأمة ، أي : به قوام أمورها وصلاح جملتها ، والأمر في الملك مجاز ، وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة ، وقرأ (١) أبو عبد الرحمن السلمي وغيره : «الله نوّر» ـ بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء ـ والضمير في (نُورِهِ) يعود على الله تعالى ؛ قاله جماعة ، وهو إضافة خلق إلى خالق ، كما تقول : ناقة الله ، وبيت الله ، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور ، فقيل : هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : هو المؤمن ، وقيل : هو الإيمان والقرآن ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : «مثل نور المؤمنين» والمشكاة : هي الكوّة غير النافذة فيها القنديل ونحوه ، وهذه الأقوال الثلاثة يطّرد فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثّل ، فعلى قول من قال : الممثّل محمد صلىاللهعليهوسلم ـ وهو قول كعب الأحبار ـ فرسول الله صلىاللهعليهوسلم هو المشكاة أو صدره ، والمصباح هو النبوة وما يتّصل بها من علمه وهداه ، والزجاجة : قلبه ، والشجرة المباركة : هي الوحي ، والزيت : هو الحجج والبراهين. وعلى قول من قال : إنّ الممثّل به هو المؤمن ـ وهو قول أبيّ بن كعب (٢) ـ ، فالمشكاة صدره ، والمصباح : الإيمان والعلم ، والزجاجة : قلبه ، والشجرة القرآن ، وزيتها : هو الحجج ، والحكمة التي تضمنها قول أبيّ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات ، وتحتمل الآية معنى آخر ، وهو أن يريد : مثل نور الله الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور ، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة ؛ التي هي أبلغ صفات النور ، الذي هو بين أيديكم أيّها البشر ؛ وقال أبو موسى : المشكاة : الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة ، والأوّل أصحّ.
__________________
(١) وقرأ بها عبد الله بن أبي ربيعة.
ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٨٣) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٤١٨) ، وزاد نسبتها إلى علي بن أبي طالب ، وأبي جعفر ، وعبد العزيز المكي ، وزيد بن علي ، وثابت بن أبي حفصة ، والقورصي ، ومسلمة بن عبد الملك.
وينظر : «الدر المصون» (٥ / ٢١٩)
(٢) أخرجه الطبريّ (٢٦٠٨٨) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٤٥) ، وابن عطية (٤ / ١٨٣) ، وابن كثير (٣ / ٢٨٩) ، والسيوطي (٥ / ٨٧) وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن أبيّ بن كعب.