ما جاؤوا إلّا إثما وزورا ، أي : ما قالوا إلّا باطلا وبهتانا ؛ قال البخاريّ (١) : (تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه ؛ من أمليت وأمللت ، انتهى. ثم أمر تعالى نبيّه ـ عليهالسلام ـ أن يقول : إنّ الذي أنزله هو الذي يعلم سرّ جميع الأشياء التي في السموات والأرض ، وعبارة الشيخ العارف بالله ، سيدي عبد الله بن أبي جمرة (رضي الله عنه) : ولما كان المراد منّا بمقتضى الحكمة الربانيّة العبادة ودوامها ؛ ولذلك خلقنا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة ، يعني : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية [الذاريات : ٥٦]. وهو عزل وجل غنيّ عن عبادتنا وعن كل شيء ؛ لكن الحكمة اقتضته لأمر لا يعلمه إلّا هو ؛ كما قال الله عزوجل : (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات ، انتهى.
(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤).
(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ...) الآية : المعنى عندهم : أنّ من كان رسولا فهو مستغن عن الأكل والمشي في الأسواق ، ومحاجّتهم بهذا مذكورة في السير ، ثم أخبر تعالى عن كفّار قريش ، وهم الظالمون المشار إليهم ، أنّهم قالوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي : قد سحر ، ثمّ نبّه تعالى نبيّه مسلّيا له عن مقالتهم فقال : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ...) الآية ، والقصور التي في هذه الآية تأوّلها الثعلبيّ وغيره أنّها في الدنيا ، والقصور هي البيوت المبنيّة بالجدرات ، لأنّها قصرت عن الداخلين والمستأذنين ، وباقي الآية بيّن ، والضمير في (رَأَتْهُمْ) لجهنم.
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ
__________________
(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٣٤٨) كتاب «التفسير» : باب سورة الفرقان.