الرهن ؛ واستزدهم في الأجل ، ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم فارس في أثناء الأجل يوم بدر. وروي أن ذلك كان يوم الحديبية ، يوم بيعة الرضوان ؛ وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ؛ وذكر الناس سرور المؤمنين بغلبة الروم ؛ من أجل أنهم أهل كتاب ، وفرحت قريش بغلبة الفرس ؛ من أجل أنهم أهل أوثان ونحوه من عبادة النار.
وقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). أي : له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء ؛ ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر الله ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يريد : كفّار قريش والعرب ، أي : لا يعملون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلف ، وأن ما يورده نبيّه حق.
قال ع (١) : وهذا الذي ذكرناه عمدة ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، قال صاحب «الكلم الفارقية» : الدنيا طبق مسموم ، لا يعرف ضرره إلا أرباب الفهوم. قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصراف الرغبة إلى الشيء ، يجدّ الراغب في طلبه ، وتتوفّر دواعيه على تحصيله. المطلوبات تظهر وتبيّن أقدار طلّابها ؛ فمن شرفت همّته شرفت رغبته ؛ وعزت طلبته. يا غافل ، سكر حبك لدنياك ؛ وطول متابعتك لغاوي هواك ـ أنساك عظمة مولاك ؛ وثناك عن ذكره وألهاك ؛ وصرف وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إن كنت من أهل الاستبصار ، فألق ناظر رغبتك عن زخارف هذه الدار ؛ فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ؛ وسجن الأبرار ؛ ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحية تجمع في أنيابها ؛ سموم نوائبها ؛ وتفرغه في صميم قلوب أبنائها ، انتهى. قال عياض في «الشفا» : قال أبو العباس المبرّد ـ رحمهالله ـ قسّم كسرى أيامه ؛ فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، ويوم الغيم للصيد ، ويوم المطر للشّرب واللهو ، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، لكن نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم جزأها ثلاثة أجزاء : جزءا لله تعالى ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس ؛ فكان يستعين بالخاصة على العامة ؛ ويقول : أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ؛ فإنّه من أبلغ حاجة من لا يستطيع ، أمّنه الله يوم الفزع الأكبر ، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه ، يأخذ من هذه الآية بحظّ. نوّر الله قلوبنا بهداه.
__________________
(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٢٩)