الغين ـ وهو الشيطان ؛ قاله مجاهد (١) وغيره ، واعلم أيها الأخ أنّ من فهم كلام ربّه ورزق التوفيق لم ينخدع بغرور الدنيا وزخرفها الفاني ؛ بل يصرف همّته بالكلّيّة إلى التزود لآخرته ؛ ساعيا في مرضاة ربه ، وأنّ من أيقن أنّ الله يطلبه صدق الطلب إليه ، كما قاله الإمام العارف بالله ابن عطاء الله. وإنه لا بد لبناء هذا الوجود أن تنهدم دعائمه وأن تسلب كرائمه ، فالعاقل ؛ من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نوره وظهرت تباشيره ، فصدف عن هذه الدار مغضيا ، وأعرض عنها موليا ، فلم يتخذها وطنا ، ولا جعلها أسكنا ؛ بل أنهض الهمّة فيها إلى الله تعالى وصار فيها مستعينا به في القدوم عليه ، فما زالت مطية عزمه لا يقرّ قرارها. دائما تسيارها ، إلى أن أناخت بحضرة القدس ، وبساط الأنس ، انتهى.
وروينا في «جامع الترمذيّ» عن أبي أمامة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ ذو حظّ من الصلاة ، أحسن عبادة ربّه ، وأطاعه في السرّ ، وكان غامضا في النّاس ؛ لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا ؛ فصبر على ذلك ، ثمّ نفض بيده فقال : عجّلت منيّته ، قلت نوائحه ؛ قلّ تراثه» ، قال أبو عيسى : وبهذا الإسناد عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء (٢) مكّة ذهبا ، قلت : لا ، يا ربّ ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، أو قال : ثلاثا أو نحو هذا ، فإذا جعت ، تضرّعت إليك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» (٣). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن فضالة بن عبيد ، انتهى. والغرور : التطميع بما لا يحصل. وقال ابن جبير : معنى الآية : أن تعمل المعصية وتتمنّى المغفرة (٤) ، وفي الحديث الصحيح : عنه صلىاللهعليهوسلم قال : «خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله تعالى ؛ وتلا الآية : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ...) إلى آخرها» (٥). قال أبو حيّان : (بِأَيِّ أَرْضٍ) : ـ الباء ظرفية والجملة في موضع نصب ـ ب (تَدْرِي). انتهى.
__________________
(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٥) رقم (٢٨١٦٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٦) ، وابن كثير (٣ / ٤٥٣)
(٢) هو مسيل واديها. ينظر : «النهاية» (١ / ١٣٤)
(٣) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٧٥) كتاب الزهد : باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه.
وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن.
(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٦) رقم (٢٨١٧٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٩٦) ، وابن عطية (٤ / ٣٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٢٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن سعيد بن جبير.
(٥) تقدم تخريجه.