أن الأصل النصب ، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ، لأن الرفع دالّ على ثبات السلام لهم دون تجدده وحدوثه.
قال الله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) نعبد : نذلّ ونخشع ونستكين ، لأن العبودية معناها الذلّة ، ومنها قولهم : طريق معبّد ، أي : مذلل وطئته الأقدام ، وذللته السابلة. وقولهم : بعير معبّد ، أي مذلل بالركوب في الحوائج ، وسمّي العبد عبدا لذلته لمولاه. وقال صاحب «الكشاف» : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه ثوب ذو عبدة ، إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج. ولذلك لم يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم ، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع.
نستعين : نطلب المعونة ، وقدم المفعول فيها ليفيد الحصر.
المعنى : لك اللهم نذل ونخضع لا لسواك ، وإياك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك ، وفي أمورنا كلها ، لا أحدا سواك ، إذ كان من يكفر بك يستعين بسواك ، وقد جرى في أول السورة على الغيبة ، ثم عدل إلى الخطاب ، وهو نوع من الالتفات ليكون أدعى إلى نشاط السامع ، لأنّ نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب يوقظ النشاط ، ويحرك الهمة للاستماع.
قال الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧))
اهدنا : وفقنا ، وهو يتعدى بإلى وباللام ، كقوله تعالى : (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : ١٢١] وقوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] وقد يحذف الحرف كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ ...) على حد قوله :
أستغفر الله ذنبا لست محصيه |
|
ربّ العباد إليه الوجه والعمل |
السراط : الجادة ، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه ، كما سمّي لقما لأنه يلتقمهم ، وقد تقلب سينها صادا لأجل الطاء ، وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ، وقرئ بهن جميعا.
والعرب تستعير الصراط لكل قول أو عمل وصف باستقامة أو اعوجاج ، والمراد به هنا طريق الحق وهو ملة الإسلام.
والضال : الحائد عن قصد السبيل ، والسالك غير المنهج القويم. والمراد بالمغضوب عليهم والضالين : كل حائد عن صراط الإسلام. وقيل : المراد بالمغضوب