واحتجّ الجصاص (١) بقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) على وجوب دفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، قال : لم يشترط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم ، وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ ، سواء آنسنا منهم الرشد ، أو لم نأنس ، إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بين بلوغ الحلم وبين خمس وعشرين سنة ، فإذا بلغها ، ولم يأنس منه رشد ، وجب دفع المال إليه ، لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره ، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد ، لاتّفاق أهل العلم على أنّ إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه ، يعني ولا إجماع على هذا الشرط بعد بلوغ هذه السن ، ثم قال : وهذا وجه سائغ من قبل أنّ فيه استعمال كلّ واحدة من الآيتين على فائدتها ، ومقتضى ظاهرها ، ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال لكان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا ، ومعلوم أنّه متى أمكننا استعمال الآيتين على فائدتهما لم يجز الاقتصار بهما على إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى.
وأنت تعلم أنّ هذا الاستدلال متوقف على أنّ المراد بالإيتاء الإعطاء والدفع بالفعل ، وأنّ المراد باليتامى اليتامى باعتبار ما كان ، وهو أحد احتمالين في الآية على ما سبق ، ونحن نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية الاحتمال الثاني ، وهو أنّ الإيتاء مستعمل في الحفظ والصيانة ، واليتامى باق على حقيقته ، وحينئذ يكون في هذا التأويل إعمال كلّ من الآيتين على فائدتها ، ولو سلمنا قصر الآية على الاحتمال الأول ، فالتعارض بينها وبين قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) إلخ وقوله جل شأنه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) تعارض الخاصّ مع العام ، لأنّ الآية الأولى توجب دفع المال إلى اليتامى كلهم ، والآيتان بعدها تحرّمان دفع المال إليهم إذا كانوا سفهاء ، ولا شكّ أنّ الخاص مقدّم على العامّ ، وسيأتي الكلام في وجه اختيار هذه السن عند قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦].
قال الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣))
المراد من الخوف العلم ، عبّر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا ، والإقساط : الإنصاف والعدل ، أقسط أزال القسوط : وهو الظلم والحيف ، ويقال :
أقسط : أي صار ذا قسط ، والقسط العدل.
__________________
(١) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٢ / ٤٩).