(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فقد علم أنّ القاتل خطأ لم يتعمّد ، فلذلك لم يؤاخذه ، وعلم أنه فوّت على ورثة المقتول مصلحتهم بقتله ، ففرض الدية تعويضا لهم ، وهذا غاية في الحكمة والمصلحة.
قال الله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)) يقول الله تعالى : ومن يقتل مؤمنا عامدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنّم باقيا فيها ، وغضب الله عليه لما ارتكبه من هذا الجرم الفظيع ، وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما.
بعد أن ذكر الله حكم من قتل المسلم خطأ ، ذكر هنا حكم من قتله عامدا ، واقتصر على ذكر عقوبته في الأخرى ، لأنّه ذكر عقوبته في الدنيا وهي القصاص في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨].
وقد استدلّ المعتزلة بهذه الآية على القطع بعذاب الفسّاق ، وخلودهم في النار ، إن لم يتوبوا ، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة شتّى. منها أنّ هذه الآية نزلت في كافر قتل مسلما ، ويرد عليه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيضا قد ثبت في الأصول أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبذلك علمنا من قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] إن السرقة علة القطع.
ومنها أنّ هذا وعيد بأنه سيفعل ذلك في المستقبل ، والخلف في الوعيد كرم ، وهذا مردود ، لأنّ الوعيد قسم من الخبر ، فإذا جوّز على الله الخلف فيه ، فقد جوّز عليه الكذب ، وهو باطل.
ومنها أن هذه الآية دلّت على أن جزاء القاتل هو ما ذكر ، وليس فيها ما يدلّ على أنه سيوصل هذا الجزاء إليه ، وهذا مثل ما يقول السيد لعبده ، جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا ، ولكن لا أفعله. وهذا ضعيف أيضا ، لأنّ الله ذكر في هذه الآية أنّ جزاءه ما ذكر ، وذكر في آيات أخرى أنه سيوصل جزاء عاملي السوء إليهم ، قال : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٨].
واختار الرازي في الجواب أنّ هذه الآية قد خصّصت في موضعين :
أحدهما : القتل العمد ، إذا لم يكن عدوانا ، كقتل القصاص.
والثاني : القتل الذي تاب عنه القتل وإذا دخلها التخصيص في هاتين المسألتين فنحن نخصّص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].