عباس أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ، من مكة إلى عسفان».
وقد تقدم الكلام على أدلة الحنفية والشافعية في الصوم ، إنما الذي يعنينا الآن هو ما ذهب إليه الظاهرية ، فنحن نقول لهم : إن الآية مجملة ، وقد أجمع السلف على أن السفر مقدّر ، وقد بينت السنة أنه مقدر على خلاف في الروايات مرجعه إلى الترجيح ، فهو عند الترجيح يثبت أحد الأقوال في التقدير ، وهو خلاف ما يدّعون.
وقد زعم الظاهرية أيضا أنّ القصر في السفر إنما يكون عند الخوف تمسكا بالشرط في قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ هو يفيد أن القصر إنما يحصل عند الخوف ، فما لم يكن خوف لم يكن قصر ، ولكنّا نقول : إنّ الآية لا تدل على أكثر من أنه عند الخوف يصح القصر ، أما في حال عدم الخوف فهل يصح أم لا؟ ذلك ما لم تعرض له الآية ، بل هي ساكتة عنه ، وهذا السكوت عنه قد بينته السنة ، وفائدة التقييد بالخوف في الآية بيان حال السفر الذي كانوا عليه وقتئذ إذ غالب أسفارهم إنما كان في حرب العدو ، على أنّ لنا أن نقول إنّ القصر الذي في الآية هو قصر صفة في إحدى صلوات السفر ، وهي الصّلاة في حال الخوف.
ثم ماذا يقول الظاهرية في قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هل يقولون : السفر المرخّص إنما يكون في حال الخوف من الكفار فقط وأما من العدو مطلقا فلا ، ما نظنهم يقولون بالتزامه ، إذ المعقول أن الذي يصلح أن يكون علة هو خوف الفتنة مطلقا ، وحيث كان الأمر كذلك فهم محجوجون بما احتجوا به.
(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن خفتم أن يتخذ أعداؤكم اشتغالكم بالصلاة وطولها فرصة لتغلّبهم عليكم فتفتنون وتغلبون. فلا تمكنوهم من هذا ، بل اقصروا من الصلاة ، ويصحّ أن يكون المراد إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم فصلوا راجلين أو راكبين آمنين. والفتنة : الشدة والمحنة والبلية.
(إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) فهم يتربّصون بكم الدوائر ليوقعوا بكم ، وتتمّ لهم الغلبة عليكم ، وقد سهلت لكم الطريق في قتالهم ، فلا تدعوا لهم فرصة لينفذوا منها إلى غرضهم ، ولو كانت تلك الفرصة هي الصلاة التي لا تترك بحال ، فقد جعلت لكم أن تقصروا منها.
قال الله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ