وقوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) معناه بما استودعوا من علمه ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه على وجهين :
أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
والثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. ويتعلق قوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) بالأحبار على معنى العلماء أو (يحكم).
وقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) خطاب لليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد أقدموا على تحريف التوراة خائفين أو طامعين ، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدّم الله ذكره فقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) والمعنى : إياكم أن تحرفوا كتابي خوفا من الناس والملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم ، فإنما يخشى العاقل عقاب ربّه وحده.
ثم أتبع أمر الخوف بأمر الطمع والرغبة فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي من أجل الرهبة أنهاكم عن التغيير للطمع في المال أو الجاه ، فمتاع الدنيا قليل ، والرشوة التي تأخذونها سحت ، لا بقاء لها ، ولا منفعة ، فلا ينبغي أن تضيّعوا بها الدّين والثواب الدائم.
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وعيد شديد ، المقصود منه تهديد اليهود الذين أقدموا على تحريف حكم الله في الزاني المحصن ؛ والاقتصاص من القاتل المعتدي ، ومعناه أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، وقالوا : إنّه غير واجب ، أصبحوا كافرين ، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ، ولا بمحمد والقرآن.
هذا وقد احتج جماعة بهذه الآية على أنّ شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا ، لأنّ الله تعالى يقول : (فِيها هُدىً وَنُورٌ) والمراد بيان أصول الشرع وفروعه ، ولو كانت التوراة منسوخة غير معتبرة الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط للزوم التكرار ، على أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم ، فلا بد أن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها ، لأنا ـ وإن اختلفنا في أنّ غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا ـ غير مختلفين في أنّ سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها.
وأيد الخوارج أيضا بآخر هذه الآية قولهم : كلّ من عصى الله فهو كافر ، فقالوا إنها نص في أنّ كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله. ولم يوافقهم جمهور الأئمة ، بل دفعوا شبهتهم بأن قوله تعالى :