(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ، ولكنه تارك له ، فلا تتناوله الآية.
قال الله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))
لما جعل اليهود ديّة النضيري أكثر من دية القرظي ، ومنعوا أن يقتل به ، مخالفين في هذا ما في التوراة ، وما حكم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سألوه ، نزلت هذه الآية.
ومعنى (كتبنا) فرضنا. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية أن يقتل المسلم بالذمي.
وقالت الشافعية : الآية خبر عن شرع من قبلنا ، وشرعهم ليس شرعا لنا.
وقرأ البعض (النفس) وجميع ما عطف عليه منصوبا ، ونصب فريق الكلّ ما عدا الجروح فقد رفعه على القطع ، ورفع آخرون ما سوى (النفس) على جعل ذلك ابتداء الكلام.
وتدلّ الآية على جريان القصاص في جميع ما ذكر فيها ، ويرى العلماء أنّ المراد بقوله : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه ، فلا يجوز التعدي ، وعليه فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى وإن رضي المقتص منه. وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمّدا ، فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية ، فإن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة ، ورأى البعض أن في عين الأعور الدية كلّها ، لأنّ منفعته بها كمنفعة ذي العينين أو قريبة منها.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور ، وقال أحمد بن حنبل : لا قود عليه ، وعليه الدية كاملة.
واختار ابن العربي الأول ، لأنّ الله تعالى قال : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) والأخذ بعموم القرآن أولى ، فإنّه أسلم عند الله ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس ، ومتمسّك مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجني عليه. وحجة ابن حنبل أنّ في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه ، وذلك ليس بمساواة.
والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء ، وكذلك يقتص من صالم الأذن وقالع السن.
وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) معناه أنها ذات مقاصة ، وهو تعميم للحكم