وقد يقال : إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟
والجواب : أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف ، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب ، فإنّه أبعد عن الريبة بهن ، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة ، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا ، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن ، ونفى عنهن الجناح في ذلك ، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه ، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة ، وأنفى للظنّة. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.
وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها : وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب ، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها ، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب ، ما دامت الفتنة مأمونة ، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد ، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع ، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة ، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن ، وانقطعت رغبتهن في الرجال.
ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه ، ووضع المرأة ثوبها ، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته ، وأمام أهله ومحارمه.
ففي «صحيح مسلم» (١) وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها ، أمرها رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي ، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر ، تضعين ثيابك عنده.
وفي رواية : «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك» ظاهر أنّ المراد من قوله صلىاللهعليهوسلم : «تضعين ثيابك عنده» أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.
قال الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما
__________________
(١) سبق تخريجه.