ولم يقل أهلكناها (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) يعني فلا مانع يمنعهم من العذاب والهلاك الذي حل بهم قال ابن عباس : لما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ، فأنزل الله هذه الآية (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني على يقين من دينه وهو محمد صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون معه (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وهو الكافر أبو جهل ومن معه من المشركين (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) يعني في عبادة الأوثان.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧))
قوله عزوجل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) لما بين الله عزوجل حال الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن في هذه الآية ما أعد لكل واحد من الفريقين فبين أولا ما أعد للمؤمنين المتقين فقال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) يعني صفة الجنة. قال سيبويه : المثل هو الوصف فمعناه وصف الجن وذلك لا يقتضي مشبها به. وقيل : الممثل به محذوف غير مذكور والمعنى مثل الجنة التي وعد المتقون مثل عجيب وشيء عظيم وقيل : الممثل به مذكور وهو قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ فِيها) يعني الجنة التي وعد المتقون (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يعني غير متغير ولا منتن. يقال : أسن الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) يعني كما تتغير ألبان الدنيا فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) يعني ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر وليس من شرابها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار بل هي لمجرد الالتذاذ فقط (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) يعني ليس فيه شمع كعسل الدنيا ولم يخرج من بطون النحل حتى يموت فيه بعض نحله بل هو خالص صاف من جميع شوائب عسل الدنيا.
عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (م) عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» قال الشيح محيي الدين النووي في شرح مسلم : سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان جيحان المذكوران في الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنة وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما ثم ذكر كلاما بعد هذا طويلا. ثم قال : فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ، ففيه تأويلان الثاني ، وهو الصحيح ، أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة. فالجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة. وقال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر هكذا نقله البغوي عنه.
وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) في ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا الحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فإن قلت : المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة ، فكيف يكون له فيها المغفرة.
قلت ليس بلازم أن يكون المعنى ولهم مغفرة فيها لأن الواو لا تقتضي الترتيب فيكون المعنى ولهم فيها من