وأرادوا أن يكون يوسف عبدا لمن ابتاعوه من السيارة ، وأراد الله أن يكون عزيز مصر ـ وكان ما أراد الله.
ويقال العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال ، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل.
قوله جل ذكره : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))
من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته ، وامتنع عما راودته تلك المرأة عن نفسه ؛ ومن لا حكم له على نفسه فلا حكم له على غيره.
ويقال إنما قال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حين استوى شبابه واكتملت قوّته ، وكان وقت استيلاء الشهوة ، وتوفر دواعى مطالبات البشرية ـ آتاه الله الحكم الذي حبسه على الحقّ وصرفه عن الباطل ، وعلم أنّ ما يعقب اتباع اللذات من هواجم النّدم أشدّ مقاساة من كلفة الصبر فى حال الامتناع عن دواعى الشهوة ... فآثر مشقّة الامتناع على لذّة الاتباع. وذلك الذي أشار إليه الحقّ ـ سبحانه ـ من جميل الجزاء الذي أعطاه هو إمداده بالتوفيق حتى استقام فى التقوى والورع على سواء الطريق ، قال تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) : أي الذين جاهدوا بسلوك طريق المعاملة لنهدينهم سبل الصبر على الاستقامة حتى تتبين لهم حقائق المواصلة.
قوله جلّ ذكره : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣))
لما غلّقت عليه أبواب المسكن فتح الله عليه باب العصمة (٢) ، فلم يضرّه ما أغلق بعد إكرامه بما فتح.
__________________
(١) آية ٦٩ سورة العنكبوت.
(٢) نلفت النظر إلى جمال عبارة القشيري الناتج عن المقابلة بين (الإغلاق) و (الفتح).