إذن ففي كثرة الفتاوى لا ريب فيها ولا غرابة ، فهو قد تفرَغ للعلم ما يزيد على نصف قرن عاكفاً عليه طيلة حياته ، باستثناء فترة خمس سنين على أكثر تقدير ، وهي التي مارس فيها العمل السياسي والإداري ، ومع ذلك لم يبتعد عن الجوّ العلمي كثيراً ، فهو كان في تلك السنين القليلة مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في سلمه عاضداً ونصيراً ، وفي حروبه قائداً ومشيراً ، ومع زحمة أعمال ولايته على البصرة والياً وأميراً ، لقد كان يعلّم أهلها ، ومرّت الشواهد في تاريخه أيام ولايته. فكثرة فتاواه التي توجد مبثوثة في الجوامع الفقهية في التراث الشيعي والسني لا نقاش فيها من جهة الكثرة ، ومن راجع كتب الفقه المقارن والخلاف ، يجد أقوال ابن عباس مع أقوال المكثرين من أهل الفتيا من الصحابة ، وربما فاق في حضوره أكثر من غيره.
غير أنّ تلك الكثرة نجد بينها آراءً مختلفة وفتاوى متناقضة ، وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى مزيد بحث لمعرفة أسباب ذلك التناقض وتمحيص تلك المرويات على ضوء الثوابت من مباني ابن عباس الفقهية ، ولا شك أنّ الرجل كان مستهدَفاً من قبل أعدائه من أمويين وزبيريين وخوارج. مضافاً إلى من كان يعادي أبناءه ، فيضعون على لسانه ما لم يقله ، وينسبون إليه ما لم يفعله ، وفي سوق المعارف تنفق مفتريات المخالف مع روايات المؤالف ، ولم يكن هو وحيد عصره في هذا الإبتلاء ، بل له الأسوة بخيرة معلِمَيه مدينة العلم وبابها ، صلى الله عليهما وآلهما الطيبين الطاهرين ، فكلاهما كُذِب عليهما في حياتهما