وهذا قد يكون وجيهاً لو ذكر له شاهداً مقبولاً (١) ، وإنّا إذا رجعنا إلى تاريخ الحكم العباسي ، ففي عصور السبعة الأوائل من خلفائه نجدهم ليسوا بأغبياء ، بل كانوا أذكياء وعلى جانب من الفطنة واليقظة في رعاية الحركات الفكرية ، وإن كان ذلك لمصالحهم السياسية ، فكانوا يحضرون العلماء ويطارحونهم المسائل ، وربما كانت المسائل على درجة عالية من الحساسية لكونها عقائدية ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كما نقرأ في بعض ما ذكر في تاريخهم عن وجود عناصر مختلفة من العلماء اجتمعوا بهم ، فكان منهم الصلب في دينه ، ومنهم المتخاذل الخاوي ، وكان الخلفاء يعرفون كلاً بسيماهم ، فيعاملونهم حسب ولاءاتهم العقائدية ، بما تمليه عليهم سياساتهم المختلفة.
فالمنصور الدوانيقي مثلاً ثاني خلفائهم ، فبالرغم من شدّته وتنمّره للعلويين وبني الحسن خاصة ، كان يرسل إلى العلماء فيحضرهم ويطارحهم بما شاء ، وسيأتي بعض أخباره مع مالك بن أنس الذي كتَب له الموطأ بإشارة منه ، وغير مالك ممن لم يبع دينه كعمرو بن عبيد والأعمش ، وهكذا كان أخلافه من بعده ، وقد تميّز عصر المأمون بتفوقه في نشاط الحركات الفكرية المتصارعة وتنسم المعتزلة الحرية ، وكان عصره هو الفترة الذهبية من عصور بني العباس ، وقد قال دعبل الخزاعي في هؤلاء السبعة من خلفاء بني العباس مفضلاً إياهم فسمّاهم
____________________
(١) وللدكتور مصطفى السباعي في كتابه ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ) مناقشات جادة وحادة مع أحمد أمين ، فراجع.