أقول : نعم لا يخفى أنّ في قوله : «على حبّه» مبالغة في مدحهم ، وإشارة إلى كمال مقامهم ، ورفعة همّتهم ، فإنّهم مع حبّهم للطعام لقد أنفقوه ، وذلك أمر صعب ليس لكلّ أحد أن يرتكبه ، نعم هو خاصّ بالكمّل الّذين قطعوا عن كلّ شيء ممّا سوى الحقّ تعالى علائقهم ، وحسبوا ما سواه حجابا مانعا عنه ، فأخلصوا قلوبهم عن التعلّق بغيره ، وصفّوا نفوسهم عن كدر حبّ ما عداه ، فهؤلاء هم الّذين صارت همومهم كلّها همّا واحدا ، وحالهم في خدمة الحقّ سرمدا.
فإن قيل : ذلك ينافي حبّهم للطعام ، فإنّ العاشق لا يشتهي الطعام ولا يهمّ بما سوى المحبوب ؛ كما قال الصادق عليه السلام : المشتاق لا يشتهي طعاما ، ولا يلتذّ شرابا ، ولا يستطيب رقادا ، ولا يأنس حميما ، ولا يأوي دارا ، ولا يسكن عمرانا ، ولا يلبس ثيابا ، ولا يقرّ قرارا ، يعبد الله ليلا ونهارا راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان شوقه ؛ معبّرا عمّا في سريرته (١).
كما أخبر الله عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٢) وفسّر النبيّ صلّى الله عليه وآله عن حاله أنّه ما أكل ولا شرب ولا نام ولا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه ... إلى آخره.
فوصفهم بحبّ الطعام وهو اشتهاؤه نقص لهم من وجه ، وإن كان كمالا لهم من وجه آخر.
__________________
(١) مصباح الشريعة : ١٩٦.
(٢) طه : ٨٤.