خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) مفيد للحصر ، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة ، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب ، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.
وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها ، وقالوا : إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.
قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء : إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق ، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح اخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.
ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة ، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة ، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا ، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير ، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم ، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره ، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى ، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع ، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.
وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب ، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه ، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط ، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له ؛ كما قيل :