كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه ، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.
بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق ، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة ، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه ، أي في قابليّته الأزليّة ، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر ، ولكن لمّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف ، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم ، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة ؛ الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه ، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء ؛ كما قال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١) وقال : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.
هذا على المذهب المختار ، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج ، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز ، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة ، فالابتلاء على حقيقته ، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.
ولا يخفى سخافة ذلك المذهب ؛ كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.
السادسة : قد استفاد بعض العارفين من قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى ، فإنّ في «الفاء» المفيدة
__________________
(١) هود : ١٠٣.
(٢) الطارق : ٩.