ولا يخفى أيضا أنّ الشيء إذا كان له الاستعداد للمقام الأعلى ممّا هو فيه في حاله الّذي هو عليه لا بدّ له من أن يمضي عليه مدّة حتّى يقرب استعداده لذلك المقام ببعض أسباب التربية ؛ إذ بدونه لا يمكن حصول بروز الاستعدادات إلى مقام الفعليّة ؛ ألا ترى أنّ النطفة لا تصير علقة إلّا بعد مضيّ زمان محدود عليه ، فلا يمكن للنطفة أن تنقلب إليها أوّل وجودها ، بل يجب في ذلك تخلّل زمان.
السابعة : في التعبير بـ «الخلق» في مقام الإخبار عن إيجاد الإنسان ، وب «الجعل» في مقام الإخبار عن الاتّصاف إشعار بالفرق بين الخلق والجعل ، فإنّ الأوّل عبارة عن إخراج الشيء عن العدم المقابل للوجود المعروف إلى الوجود ، والثاني عبارة عن التقدير بعد الوجود ، فناسب الأوّل «الخلق» فإنّ الإنسان ما كان موجودا بالوجود العنصريّ ثمّ وجد ، والثاني «الجعل» فإنّه تعالى ما أوجده سميعا بصيرا أوّل المرتبة ، بل بعد أن خلقه وأعطاه الوجود العنصريّ جعله كذلك ، فلذا أتى بـ «الفاء» المفيدة للترتيب لتدلّ على أنّ الجعل فرع الخلق ، وأنّ بروز الوصفين فيه إنّما كان لاستعداده من الأوّل قديما من قبل نفسه لا من فعلنا ، ونسبة الجعل إلى نفسه بعد التفريع لا تنافي ذلك ، لأنّه تعالى أخبر أنّ جعلنا إيّاه كذلك كان لما فيه من القوّة والتهيّؤ له.
ثمّ لا يخفى أنّ الإنسان يتّصف بالوصفين بمجرد الاستعداد ، فلا يشترط الفعليّة ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال للنائم إنّه بصير وسميع ، وذلك لما فيه من المكنة لذلك ؛ وإن لم يكن الوصف بارزا فيه بالفعل. وذلك واضح.