ومنه يظهر أنّ قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) معناه : فجعلنا فيه قوّة ذلك بإفاضة الوجود والاستعداد القديم الغريب ، وبمعونة الأسباب المقرّبة يحصل فيه فعليّة ذلك الوصف ، بخلاف غيره من أفراد الحيوانات ، فإنّها لعدم استعدادها في الأزل لقد حرمت عن ذلك المقام بالذات.
وفي حكمها بعض أفراد الإنسان الّذين أصرّوا في العصيان والشقاوة ، واستكبروا عن التذلّل لمظاهر أسماء الله الحسنى ، أي الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام فإنّهم كما عرفت لقد عدم استعدادهم وحرموا عن نور الهداية ، ولذا شبّههم الله بالأنعام ؛ حيث قال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١) أي ولقد خذلنا كثيرا منهم لجهنّم الطبيعة والمهيّة ، ومن صفاتهم أنّ لهم قلوب منكدرة بالقساوة والشقاوة «لا يفقهون بها» غرض الأنبياء والأولياء ، ولا يطّلعون على حقائق التوحيد «ولهم آذان لا يسمعون بها» تغنّيات طاووس الملكوت في إعلاء كلمة التوحيد ، وإفشاء حقائق التجريد «ولهم أعين لا يبصرون بها» أنوار المحبوب اللامعة عن سماء الحبيب ، فـ «أولئك كالأنعام» الّتي ما كان لهم تلك الاستعدادات من الأصل «بل هم أضلّ» منها ، لأنّهم كانوا مستعدّين فضيّعوا استعدادهم ، فلم يعرفوا رشادهم ، و «أولئك هم الغافلون» أي الذاهلون عمّا صنعوا ممّا يبعّدهم عن معارج الحكمة ، ومدارج الصفاء ،
__________________
(١) الأعراف : ١٧٩.