الاشتغال بمفارقتها عن البدن تحسّ الألم ، فإنّها حينئذ غير سكرى من خمور محبّة الدنيا فتجد ما عملته محضرا ، وتودّلو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، ألا ترى إلى السكران المجروح كيف لا يدرك ألم جراحته إلّا بعد الصحو والإفاقة؟!
الثالثة : قال بعض العارفين : لعلّ النكتة في تقديم «السلاسل» ثمّ «الأغلال» ثمّ «النار» أنّ المؤدّب اللطيف الحاذق يقدّم الأسهل حتّى يختم بالأشدّ ، ليكون ذلك أردع للنفوس الجاهلة ، فإنّ تلك النفوس إذا ذكرت عليها السلاسل يقع عليها خوف ، فإذا أردفت بذكر الأغلال ازدادت خوفا وهيبة ، فإذا ضمّ الذكر بالنار المسعورة فإنّها تكون في غاية الخوف ، وهذا مفهوم ظاهر بحسب العرف ، بخلاف ما لو قدّم الأشدّ ، فإنّ ذكر «السعير» في أوّل التحذير إن أفاد النفس انزجارا ففي الثانيين لا يستفيدها شيئا ، بل ربّما يسهل عليها بسبب ما توعدّت به.
أقول : ويحتمل أن يكون في ذلك إشارة إلى مراتب أحوال الكفّار ، فإنّهم مختلفون في العذاب بحسب اختلاف مراتب كفرهم ؛ إذ منهم من هو واقع في أوّل مقام الكفر ، ومنهم من هو واقع في المقام الثاني ، ومنهم من هو واقع في المقام الثالث الّذي ليس فوقه مقام ؛ كما قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١).
ولا ريب في الواقع في المقام الأوّل حجابه أقلّ من الواقع في المقام الثاني ، والواقع في الثاني أقلّ حجابا من الواقع في المقام الثالث ، والواقع في
__________________
(١) النساء : ١٤٥.