لخلوّ بالهم من المشاغل ، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون ، مع اختلاف الأهواء ، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لو لا لطف ربه به ، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم ، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا.
الإيضاح
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين ، فيشربون ويتحادثون على الشراب ، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك ؛ كما أفصح عن ذلك شاعرهم :
وما بقيت من اللذات إلا |
|
محادثة الكرام على الشراب |
ولثمك وجنتى قمر منير |
|
يجول بوجهه ماء الشباب |
والحديث ذو شجون ، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا ، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال ، وفراغ البال ، واطمئنان النفس ، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال :
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة : إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة ، ويستنكره أشد الاستنكار ، ويقول متعجبا : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل ، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام ، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.