فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن ؛ إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.
ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال :
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن ، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.
هذا خلاصة مارآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص ، وهو حسن.
بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال ـ ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال ، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه ـ إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة ـ ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود ، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر ، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه ، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي فى غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة ـ فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما ، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال ، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما ، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفى عليهما ، ولأجله تسوّرا المحراب ، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر ، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود ، فهى فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل ، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين ، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بنى إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله : «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»