لا يستحقّ العبادة سواه.
ولمّا صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالعيان ، والمشاهد بالبرهان ، فكأنّ المعلوم المميّز بتلك الصفات العظام صار عيانا ، والمعقول مشاهدا ، والغيبة حضورا ، فقال : يا من هذا شأنه وهذه صفاته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي : نخصّك بالعبادة في كلّ الحالات (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ونخصّك بطلب المعونة في جميع المهمّات. فتقديم المفعول إنّما هو لقصد الاختصاص ، ولهذا قال ابن عبّاس : معناه : نعبدك ولا نعبد غيرك.
واعلم أنّ «إيّا» ضمير منفصل للمنصوب ، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في «إيّاك» و «إيّاه» و «إيّاي» لبيان الخطاب والغيبة والتكلّم ، ولا محلّ لها من الإعراب ، كالتّاء في «أنت» والكاف في «أرأيتك» ، إذ هي حروف عند المحقّقين ، وليست بأسماء مضمرة كما قاله بعضهم. ومن عادة العرب التفنّن في الكلام ، والعدول من أسلوب إلى آخر تنشيطا للسامع ، فإنّ لكلّ جديد لذّة ، ويسمّى هذا التفاتا. وهو قد يكون من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب ، ومن الغيبة إلى التكلّم ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (١) ، وقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) (٢). والفائدة المختصّة به في هذا الموضع قد ذكرت آنفا.
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه : طريق معبّد أي : مذلّل ، ولهذا لا تحسن إلّا لله سبحانه الّذي هو مولى أعظم النعم.
وقدّمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ، وليعلم منه أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
والضمير المستكنّ في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري
__________________
(١) يونس : ٢٢.
(٢) فاطر : ٩.