الحصيف في مزالق الفتن ، وتمرسه البصير في الشدائد ، وبصيرته النافذة وتجاربه الكثيرة الماضية ، فجرى في حديثه معه عند « موهبته الخاصة » التي كان يفزع اليها في منازلة العظماء من أعدائه ، فقال : « يا عدي أين الطرفات؟ ـ يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة ـ » قال : « قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب ». فقال : « ما أنصفك ابن أبي طالب ، اذ قدم بنيك واخر بنيه ». قال ، « بل ما أنصفت أنا علياً ، اذ قتل وبقيت بعده ». فقال معاوية : « أما انه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها الا دم شريف من أشراف اليمن! ». فقال عدي : « واللّه ان قلوبنا التي ابغضناك بها لفي صدورنا ، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت لنا من الغدر فترا لندنين اليك من الشر شبراً! وان حز الحلقوم ، وحشرجة الحيزوم ، لاهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».
فقال معاوية : « هذه كلمات حكم فاكتبوها » ـ هزيمة منكرة من معاوية ـ وأقبل على عدي يحادثه كأنه ما خاطبه بشيء (١).
« ولا خير في حلم اذا لم يكن له |
|
بوادر تحمي صفوه ان يكدرا » |
ثم قال له : « صف لي علياً ». فقال : « ان رأيت ان تعفيني ». قال : « لا أعفيك ». قال :
« كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلاً ، ويحكم فصلاً ، تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته. وكان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه اذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى. يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن. وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه ، ويدنينا اذا أتيناه. ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا اليه لعظمته. فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم. يعظم أهل الدين ،
__________________
١ ـ المسعودي هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٦٥ ).