ويقص علينا القرآن الكريم ، كيف بدأ النبي الكريم دعوته مع أبيه بلهجة تسيل أدبا ورقة ، يهديه بها صراطا مستقيما ، فأشار إلى الأصنام مبينا أنها لا تنفع ولا تضر ، ولا تسمع ولا ترى ، ولا تشعر بعابد يعبدها ، أو عاص يعصاها ، ثم بيّن لأبيه أنه ليس مخترعا للدعوة ، وأنها من لدن عليّ قدير ، وأنه قد تلقى من العلم ما لم يتلق أبوه ، وأنه لا ضرر عليه إذا اتبع ملة ولده أو عمل برأيه ، واختتم نصحه برجاء تقدم به إلى أبيه أن يحذو حذوه ، ويسلك سبيله ، وإلا فالطريق التي يسلكها غير طريق الهدى ، هي طريق ملأى بالأشواك ، وهي طريق الشيطان الرجيم ، وهو عدو لا يرشد إلى خير ، ولا يبتغي إلا إيقاع الناس في الشر وإهلاكهم ، فقد عصى ربه فطرده وأبعده عن رحمته ، فتوعّد الناس بالإغواء والضلالة (١).
ولكن «آزر» رفض الدعوة ، بل وأصر على عناده ، وصمم على كفره ، وتجاهل بنوته ، وأنكر إشفاقه به ، ونصحه له ، وهدّده إن لم ينته عن دعوته هذه ليرجمنه ، وليهجرنه مليا ، وكان آزر في ذلك مغمضا عينيه عن اعتبارات النبوة ، متجاهلا إياها ، فاستنكر النصيحة ، وسفه الرأي ، وسخر من الشرعة الجديدة ، فما كان من الخليل ، تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وأن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.
ولنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة مريم ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ
__________________
(١) محمد حسني : المرجع السابق ص ٣١.