ورغم ذلك كله ، فقد صابرهم وطاولهم ، ومدّ لهم في حبل صبره وأناته ، وناضلهم وأخذ يفنن في الدعوة ، من غير يأس ولا ملل ، دعاهم ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) (١).
كان نوح عليهالسلام يتكتم في أول الأمر في عرض الدعوة على قومه ، فكان يدلي لهم بالمناصحة سرا ، مستغرقا في ذلك جميع وقته ، ليله ونهاره ، كما هو شأن الداعي الحريص على بث دعوته ، الحاذق في أدائها ، العالم بطرق تبليغها ، يتحين لها الفرص ، ويختار لها الأوثق فالأوثق من الرجال ، ولا يتسرع في إفشائها خشية أن يكاد لها ، وتقام العواثير دونها ، ومع كل ذلك لم تنجح دعوة نوح عليهالسلام في القوم لفرط عتوهم ، وتحجر العناد في نفوسهم ، وهذا ما حمل نوحا على سلوك طريق آخر في الدعوة ، وهو مصارحتهم بها ، وتبليغهم إياها جهارا ، من دون تكتم ولا خوف ولا تقية ، وهو معنى قوله تعالى : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) ، إذ ربما فرط تكتمه في أمره ، واستخفائه بدعوته ، يجعلهم يظنونها باطلة ، وإلا فما الذي يمنعه من الجهر بها؟ أو يظنون أنه عاجز جبان عن تبليغها فهو يكتمها خشية إيقاعهم به ، وهذا مما يزيدهم نفورا وعنادا ، ومن ثم قام نوح عليهالسلام يصدعهم بدعوته صدعا ، شأن الواثق من صدقها ، المعتمد على ربه في حياطته وحياطتها ، كأنه يقول : «هاكم دعوتي أبلغكموها على رءوس الأشهاد ، فإن كان لكم سلطان بيّن على بطلانها فهاتوه ، أو كنتم تريدون قتلى وصدى بالقوة فافعلوه (٢).
__________________
وانظر : تفسير القرطبي ص (٦٧٧٩ ـ ٧٧٨٠) ، تفسير ابن كثير ٤ / ٦٦٤ ـ ٦٦٥ ، تفسير النسفي ٤ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، تفسير جزء تبارك ص ١٢٣ ـ ١٢٥.
(١) سورة نوح : آية ٨ ـ ٩.
(٢) عبد القادر المغربي : تفسير جزء تبارك ص ١٢٥.