غير أن القوم لجوا في عنادهم ، وأجابوه بأربع حجج ، ظنوا كذبا أنها داحضة ، الأولى : أنه بشر مثلهم ، فساووه بأنفسهم في الجملة ، وهذا يدل على أنه عليهالسلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه ، وهكذا كان كل رسول من وسط قومه (١) ، ووجه الجواب : أن المسألة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر ، بجعل أحدهما تابعا طائعا ، والآخر متبوعا مطاعا ، لأنه ترجيح بغير مرجح.
والثانية : أنه لم يتبعه منهم إلا أرذلهم في الطبقة والمكانة الاجتماعية «بادي الرأي» لا بديل من العقل والعلم ، وبهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن
__________________
(١) من المعروف أنه من فضل الله تعالى على رسله وأنبيائه ، وسنته في اصطفائهم أن يختارهم من أكرم البيوت وأشرف الظهور ، وأطهر البطون وأبعدها عن الدنايا ، وألصقها بمكارم الأخلاق ، على ما يقوله الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وعلى ما يقول جل شأنه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). وقد بيّن سيدنا وملانا وجدنا محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، هذا المعنى بقوله الشريف ، فيما رواه مسلم والترمذي ، «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار» ، وأخرج ابن مردوية عن أنس أنه قال : «قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، «لقد جاءكم من أنفسكم ، بفتح الفاء» ، وقال : «أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا» ، وروى الحاكم والبيهقي عن عائشة إنها قالت ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم (ورواه أيضا الطبراني في الأوسط وابن عساكر).
وفي الواقع فلقد كان بنو هاشم في ميزان المجتمع العربي سادته وقادته وأشرافه ، وكانوا في ميزان القيم أجود الناس كفا ، وأوفاهم ذمة ، وأنداهم عطاء ، وأكثرهم في سبيل الخير بلاء ، وأحماهم للذمار ، وبكلمة واحدة هم في قومهم وزمانهم ضمير أولئك القوم وذلك الزمان ، وهكذا كان بنو هاشم ، كما يقول ابن تيمية ، أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل بني آدم ، وهكذا كان منبت النبي صلىاللهعليهوسلم ، كما يقول الأستاذ الغزالي ، في أسرة لها شأنها ، بعض ما أعده الله لرسالته من نجاح ، ولعل هذا كله يبيّن لنا الحكمة في اختيار الرسل من أواسط أقوامهم ، ومن الجبهة القوية فيهم ، حتى يكونوا لهم سندا وعضدا ، ضد سفاهة السفهاء وبغي الباغين ، (انظر التفصيلات : محمد بيومي مهران : في رحاب النبي وآل البيت الطاهرين ـ الجزء الأول ـ السيرة النبوية الشريفة ـ الكتاب الأول).