(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيدا رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص. فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٤] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها. أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير. والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول. ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. قوله (وَآمِنُوا) معطوف على (اذْكُرُوا) والمراد (بِما أَنْزَلْتُ) القرآن و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن تكذيبا لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقا ، ومن جهة أنه صلىاللهعليهوسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلىاللهعليهوسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) صلىاللهعليهوسلم أي أوّل من كفر به صلىاللهعليهوسلم ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلىاللهعليهوسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله «كسانا حلة» أي كل واحد منا.
(وهاهنا سؤالان) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به صلىاللهعليهوسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلىاللهعليهوسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : انه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلىاللهعليهوسلم لمعرفتهم به صلىاللهعليهوسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلىاللهعليهوسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم. فلما بعث كان أمرهم على العكس (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩]. والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا ـ وأنتم تعرفونه صلىاللهعليهوسلم موصوفا في التوراة ـ مثل من لم يعرفه صلىاللهعليهوسلم لأنه لا كتاب له. الثالث : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل. الرابع (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) يعني بكتابكم. يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلىاللهعليهوسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق الى الكفر كفره