الحرة. فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) الآيات فجاء النبي صلىاللهعليهوسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته ، فلما سمعوا صوته صلىاللهعليهوسلم أنصتوا له صلىاللهعليهوسلم وجعلوا يستمعون ، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون. وفي رواية زيد بن أسلم : خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال : يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عزوجل الآيات. قال جابر بن عبد الله : ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا ، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فما رأيت يوما قط أقبح ولا أوحش أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام بطريق الإنكار والعجب. والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلىاللهعليهوسلم في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم كل علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر ، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قول المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلىاللهعليهوسلم. قلت : أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر ، وأما النبي صلىاللهعليهوسلم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر ، ولكن نور سره باق بين المؤمنين ، فكأنه باق على أن عترته صلىاللهعليهوسلم وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضا. ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي» (١) وقال : «إن العلماء ورثة الأنبياء» (٢) اللهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك. وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبدا إلى يوم القيامة. ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة. أما المعتزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا : إنه بفعل
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٣٦ ، ٣٧. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١. أحمد في مسنده (٣ / ١٤ ، ١٧ ، ٣٦٧).
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).