من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قالت الأشاعرة : معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبورا وكانت صبا حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة. ولا يتوجه عليهم إشكال لأن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه. وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا : كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) وأيضا إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها. قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين : بعضهم فارقوا المكان أوّلا لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو ، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو. ألا ترى أن النبي صلىاللهعليهوسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذنه. ثم قال (لِيَبْتَلِيَكُمْ) والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين. ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم ، من أعظم أنواع الابتلاء ، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين في الانصراف وعلى غير المعذورين. فقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) يرجع إلى المعذورين ، وقوله (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يرجع إلى غير المعذورين. وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال الكعبي : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم. وقال أبو مسلم الأصفهاني : المعنى من الصرف أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم. ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره ، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم. قال القاضي : ظاهر قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة : لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك