ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٣٥] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : انزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال : إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. قلت : ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية ، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده. قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته. ومثله قوله صلىاللهعليهوسلم : «لكل غادر لواء يوم القيامة» (١) وقال أبو مسلم : هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته. والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقيل : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل : ثم يوفى ما كسب.
ثم فصل ما أجمل فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ) والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره «أمن اتقى فاتبع». قال الكلبي والضحاك : أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) رجع منه بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله بامتثال أمر النبي صلىاللهعليهوسلم حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل : الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون. وقيل : أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصا. وقوله : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) من تمام صلة من «باء». وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) اعتراض. قال القفال : لا يجوز في الحكمة أن يسوى بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها. (هُمْ دَرَجاتٌ) قيل : أي لهم
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الجزية باب ٢٢. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٨ ، ١٠ ـ ١٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٥٠. الترمذي في كتاب السير باب ٢٨. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٤٢. الدارمي في كتاب البيوع باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ٤١١ ، ٤١٧).