درجات. وحسن هذا الحذف لأن اختلاف أعمالهم كأنه قد صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. وقالت الحكماء : النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام ، ومن هنا قال صلىاللهعليهوسلم : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (١) فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات. وقيل : المراد ذوو درجات. ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل : إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب. ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفا لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله : (عِنْدَ اللهِ) وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال : «هذه المسألة عند الشافعي كذا» ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفا وأنه يليق بأهل الثواب. وقال الحسن : يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب. عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن منها ضحضاحا وغمرا» (٢) وقال : «إن أهون أهل النار عذابا رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي» (٣) والأوجه أن يكون عائدا إلى الكل ، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق. وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢] (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم بمقدارها.
قوله عز من قائل : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في النظم وجوه منها : أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال : لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم. ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول ، فالطعن فيه طعن فيكم. ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان ، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد. ومعنى المنّ هاهنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه. والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة ، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول. فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة ، والنبي يورد عليهم
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٣٩).
(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٥٨.
(٣) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١ ، مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٦٢. الترمذي في كتاب جهنم باب ١٢. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٢١. أحمد في مسنده (٢ / ٤٣٢).