الحق على لسانه من فضله وإحسانه (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فقال نمرود : هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علنه وهو (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى. فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده. و (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة : أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقا؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمرا في كل منها الإثبات في لفظة النفي. فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سرا بسر أي بلى آمنت. وكان إيمانا حقيقيا ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل ، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد ، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك ، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني ، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء ، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول : أرني وجهك لأنظر إليك. لأنه يعلم أن الدلال قرين الجمال ، وأن العزة والحسن توأمان : وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول : أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول : انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك. فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) الآية. والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب ، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع ، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي ، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان : فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معا ، ومن النار وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة ، ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها. فالحرص زوجه الحسد ، والبخل زوجه الحقد ، والغضب زوجه الكبر ، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة ، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٤] يعني من الخلق. فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من