ولهذا ذكر الضمير في (مِنْهُ) لينصرف إلى الصداق الواحد فيكون متناولا بعضه ، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله لأن بعض الصدقات واحدة منها أو أكثر. ومن هذا التقرير يظهر أن «من» في قوله : (مِنْهُ) للتبعيض إخراجا للكلام مخرج الغالب مع فائدة البعث المذكور لأنه لا يجوز هبة كل الصداق إذا طابت نفسها عن المهر بالكلية ، ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن «من» للتبيين والمعنى عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل : الهنيء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما تحمد عاقبته. وقيل : هو ما ينساغ في مجراه ومنه يقال : المريء لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة. وقيل : أصله من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من الجرب. وبالجملة فهو عبارة عن التحلل أو المبالغة في إزالة التبعة في الدنيا والآخرة. وهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على قوله : (فَكُلُوهُ) ويبتدأ (هَنِيئاً مَرِيئاً) على الدعاء أو على أنهما قاما مقام مصدريهما أي هنأ مرأ. والمراد بالأكل التصرف الشامل للعين والدين. قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت علم أنها لم تطب عنه نفسا. وعن عمر أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. وعن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن هذه الآية فقال : إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة.
ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن ، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء. فورد أن الأنسب أن لو قيل أموالهم. وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا فقيل : «أنفسكم» لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه ، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب. وقيل : خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم. فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة. والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته. وقد يرجح القول الأول بأن ظاهر النهي للتحريم ، وأجمعت الأمة على