ونصحه قال له : إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية ، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراما بل هو عين الطاعة. أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله تعالى عقاب الظالم. وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم ، فعلى هذا يجوز أن يقال : إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني ، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأوّل أيضا. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل : حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال : شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه. ثم إنه وجد هابيل يوما نائما فضرب رأسه بصخرة فمات. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» (١) وذلك أنه أوّل من سن القتل (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدا. قيل : لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء. وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا. فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا :
تغيرت البلاد ومن عليها |
|
فوجه الأرض مغبر قبيح |
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٣٣. كتاب الأنبياء باب ١. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٧. الترمذي في كتاب العلم باب ١٤. النسائي في كتاب التحريم باب ١. ابن ماجه في كتاب الديات باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٣ ، ٤٣٠).