ويذرون ، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها ، ومن هاهنا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد حمل قوله صلىاللهعليهوسلم «وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (١) على مثل هذا. ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور ، ولهذا حكى عن أهل الجنة (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس : ١٠] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] أي كل الحمد له ، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا. ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين : أحدهما بالإضافة إليه ، والثاني بقوله : (رَبَّنا) أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات. أو تكون الإضافة إشارة إلى ما ورد في الحديث «إن لله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون. وأخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة» (٢) أو لعل العبد يقول : كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين. فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولو لا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، ولو لا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك. فأنا أطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين. وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم ، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني. أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعا إليك في أن تربيني في المستقبل ، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه ، (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك. وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزئيات قادر على كل الممكنات ، له المحيا وله الممات. قوله سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إن قلنا إنه
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٤١. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٤٧ باب ١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٥. أحمد في مسنده (٢ / ٤٥).
(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٩. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٧. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٥.