وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة ، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ. وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله.
النوع الثالث : الدعاء (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تركه بالدعاء. وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله : (لا طاقَةَ لَنا) أي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه. وفي الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال في المملوك : «له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» أي لا يشق عليه. وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذ واحدا فعدلوا عن ذلك وقالوا : المراد منه العذاب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله. سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) لا يدل على جواز أن يحكم بباطل. وكذا قول إبراهيم صلىاللهعليهوسلم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز. قيل : لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل. قيل : لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب. والجواب على تفسير المعتزلة ظاهر أي لا تحملنا عذابك فإنهم طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وأما على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفا شاقا مقيدا وهو التكليف بما كلف من قبلهم ، ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه مطلقا سواء كلف بذلك من قبلهم أم لا. وقيل : الأول طلب ترك التشديد في مقام القيام بظاهر الشريعة ، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك ولا شكرا يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمالك. وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في (لا تُؤاخِذْنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا) فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى.
النوع الرابع من الدعاء (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) وإنما حذف النداء وهو قوله «ربنا» هاهنا لأن النداء يشعر بالبعد. فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع