قوله (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ). أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لو لا الكفر. وفي قوله (عِنْدَ اللهِ) تشريف عظيم لقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) وكذا في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف ، قال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ) إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها (مُقِيمٌ) وثانيها (خالِدِينَ) وثالثها (أَبَداً) وقال أهل التحقيق : الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلا ، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله (جَنَّاتٍ) إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات ، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله (اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ «عند» وتقديمه وتنكير «أجر» ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.
قال الكلبي : لما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون : ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع