مهلا بني عبد المدان مهلا ، استديموا العافية والسعادة ، فإنهما مطويان في الهوادة ، دبوا إلى قوم في هذا الأمر دبيب الذر ، وإياكم والسورة العجلى ، فإن البديهة بها لا ينجب ، إنكم ـ والله ـ على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على رد ما فعلتم ، ألا إن النجاة مقرونة بالأناة ، ألا رب إحجام أفضل من إقدام ، وكائن من قول أبلغ من صول ، ثم أمسك.
فأقبل عليه كرز بن سبرة الحارثي ـ وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب وفي بيت شرفهم والمعصب فيهم ، وأمير حروبهم ـ فقال : لقد انتفخ سحرك واستطير قلبك أبا حارثة ، فظلت كالمسبوع النزاعة المهلوع ، تضرب لنا الأمثال ، وتخوفنا النزال ، لقد علمت ـ وحق المنان ـ بفضيلة الحفاظ بالنوء بالعبء وهو عظيم ، وتلقح الحرب وهو عقيم ، تثقف إود الملك الجبار ، ولنحن أركان الرائش وذوو المنار ، الذين شددنا ملكهما ، وأمّرنا مليكهما ، فأي أيامنا ينكر؟! أم لأيها ـ ويك ـ تلمز؟! فما أتى على آخر كلامه حتى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفه غيظا وهو لا يشعر.
فلما أمسك كرز بن سبرة ، أقبل عليه العاقب ـ واسمه عبد المسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم ، وأمير رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، الذي لا يصدرون جميعا إلا عن قوله ـ فقال له :
أفلح وجهك ، وآنس ربعك ، وعز جارك ، وامتنع ذمارك ، ذكرت ـ وحق مغبرة الجباه ـ حسبا صميما ، وعيصا كريما ، وعزا قديما ، ولكن ـ أبا سبرة ـ لكل مقام مقال ، ولكل عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهي الأيام تهلك جيلا وتديل قبيلا ، والعافية أفضل جلباب ، وللآفات أسباب ، فمن أوكد أسبابه التعرض لأبوابها. ثمّ صمت العاقب مطرقاً.