لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى ما كان أحبّ ، فكان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل حتّى قبضه الله تبارك وتعالى إليه. وأنّ أباك علياً (صلوات الله عليه) قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصرته وهم المؤمنون ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقوم قعدوا عنه وخذلوه حتّى مضى إلى رحمة الله وروحه وريحانه ، وأنت اليوم يابن رسول الله على مثل تلك الحال ، فمَنْ نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، والله تبارك وتعالى مغنٍ عنه ؛ فسر بنا يابن رسول الله راشداً معافى ، مشرقاً إن شئت أو مغرباً ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي مَنْ والاك ، ونعادي مَنْ عاداك. وقام إليه برير بن خضير الهمداني (١) ، فقال : يابن رسول الله ، لقد مَنْ الله تعالى علينا بك أن
__________________
أرمـي بها معلمةً أفواقُها |
|
مسمومةً تجري بها أخفاقُها |
لـيملأنَّ أرضها إرشاقُها |
|
والنفسُ لا يمنعها إشفاقُها |
حتّى إذا نفذت سهامه جرّد سيفه وحمل عليهم ، وهو يقول :
أنـا الهزبرُ الجملي |
|
ديني على دينِ علي |
فقتل اثني عشر رجلاً غير الذين جرحهم ، وصار أهل الكوفة يُضاربونه بالحجارة والنضال حتّى كسروا عضديه ، واجتمعوا عليه فأخذوه أسيراً ، وقد أمسكه شمر بن ذي الجوشن ، وراحوا يسوقونه حتّى جاؤوا به عمر بن سعد ، فقال له عمر : ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ قال : إنّ ربّي يعلم ما أردت. فقال له رجل ، وقد نظر الدماء تسيل على لحيته : أما ترى ما بك؟ قال : والله ، لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى مَنْ جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني. فقال شمر لابن سعد : اقتله أصلحك الله. قال : أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى شمر سيفه ، فقال له نافع : أما والله ، لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثمّ قتله شمر.
(١) هو برير بن خضير الهمداني المشرقي ، وبنو مشرق بطن من همدان. قالوا : كان برير شيخاً تابعياً ناسكاً ، قارئاً للقرآن ، من شيوخ القرّاء ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين. ذكر أرباب السير أنّ بريراً لمّا بلغه امتناع الحسين من البيعة ليزيد الطاغية خرج من الكوفة