فتبينّاها وعدلنا. فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا ، كأنّ أسنتهم اليعاسيب (١) ، وكان راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين (عليه السّلام) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس مع رئيسهم الحر بن يزيد التميمي الرياحي (٢) حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السّلام) في حرّ الظهيرة ، وقد
__________________
(١) اليعاسيب : مفردها يعسوب ، ذكر النحل وأميرها ، تشبه بها لبريق أجنحتها في أشعة الشمس.
(٢) هو الحرّ بن يزيد الرياحي الذي جعجع بالحسين (عليه السّلام) ، وكان أوّل خارج عليه ، ثمّ بعد ذلك أدركته السعادة وحظي بشرف الشهادة ، فكان أوّل قتيل بين يدي الحسين يوم الطفّ. ذكر أرباب التاريخ : أنّه لمّا صمّم ابن سعد على حرب الحسين (عليه السّلام) ، خرج الحسين (عليه السّلام) وقد ضرب بيده على كريمته المباركة ، وقال : «اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى ؛ إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضب الله على المجوس ؛ إذ عبدت الشمس والقمر والنار من دونه ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم. والله ، لا أجيبهم على شيء يريدونه أبداً حتّى ألقى الله». فلمّا سمع الحرّ بن يزيد هذا الكلام اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكياً متضرّعاً مع غلام له تركي. وكان كيفية انتقاله إلى الحسين (عليه السّلام) : أنّه لمّا سمع هذا الكلام أتى عمر بن سعد ، وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : أي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي فيه. فقال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟ فقال : والله ، لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك ـ يعني ابن زياد ـ قد أبى ذلك. فأقبل الحرّ حتّى وقف عن الناس جانباً ومعه رجل من قومه يُقال له : قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة ، هل سقيت فرسك اليوم ماء؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال قرة : فظننت والله أنّه يريد أن ينتحي فلا يشهد القتال ، ويكون أن لا أراه يصنع ذلك مخافة أن أرفع عليه ، فقلت له : لم أسقه ، وأنا منطلق فأسقيه. قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. والله ، لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين (عليه السّلام). فأخذ يدنو قليلاً قليلاً ، فقال له رجل من قومه : يا أبا يزيد ، إنّ أمرك لمريب ، فما الذي تريد؟ قال : والله ، إنّي أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وحرقت. ثمّ ضرب فرسه ولحق بالحسين (عليه السّلام) مع غلامه التركي ، فقال : يابن رسول الله ، جعلني الله فداك! إنّي صاحبك الذي حبسك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم ، ولا يبلغون بك هذه المنزلة ، وإنّي لو سولت لي نفسي أنّهم يقتلونك ما ارتكبت هذا منك ، وإنّي قد جئتك تائباً إلى ربّي ممّا كان منّي ، ومواسيك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، أفترى ذلك توبة؟ قال : «نعم ، يتوب الله عليك ، ويغفر لك».