الواعي منه ، وذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن.
١ـ في قوله تعالى : ( ياجبال أوبي معه والطير ) (١). جرس موسيقي حالم ، وصدى صوتي عميق ، وإطلاق للأصوات من أقصى الحلق وضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها ، فيما به يتعين موقع « أوبي » بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب ، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال ، وهو خلاف العادة ، وخرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت ، ولو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لعاد النظر مهلهلاً ، والدلالة الصوتية منعدمة.
قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : « فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : وآتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى من الدلالة على عزة الربوبية ، وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ،أشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد ، وناطق وصامت إلا وهو منقاد إلى مشيئته ، غير ممتنع عن إرادته » (٢).
وتقرأ الآية : ( ياجبال أوبي معه والطير ) (٣). بالتشديد ، وتقرأ بالتخفيف ، فمن قرأ ( أوبي ) بالتشديد فمعناه : يا جبال سبحي معه ، ورجعي التسبيح لأنه قال : سخرنا الجبال معه يسبحن ، ومن قرأ ( أوبي ) بالتخفيف ؛ فمعناه : عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه (٤).
فالنظام الصوتي بهذا هو الذي يحقق المعنى الجملي ، فإن كانت ( أوبي ) بالتشديد ، وهي القراءة المتعارفة ، فالمراد : التسبيح في ترديده وترجيعه ، وإن كانت بالتخفيف ؛ فتعني الرجوع والأوبة ، وعليه فالمراد إذن : العودة إلى التسبيح كلما عاد :
__________________
(١) سبأ : ١٠. (٢) الزمخشري ، الكشاف : ٣|٢٨١. (٣) سبأ : ١٠. |
(٤) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ١|٢١٢. |