قال امرؤ القيس :
صمّ صداها وعفا رسمها |
|
واستعجمت عن منطق السائل (١) |
فإن قال قائل فيما بعد : إنّ جميع ما قدمته يدل على أن تصريف (ع ج م) في كلامهم موضوع للإبهام ، وخلاف الإيضاح ، وأنت إذا قلت : أعجمت الكتاب ، فإنما معناه أوضحته وبينته ، فقد ترى هذا الفصل مخالفا لجميع ما ذكرته ، فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟ (٢)
فالجواب : أن قولهم أعجمت وزنه أفعلت ، وأفعلت هذه وإن كانت في غالب أمرها إنما تأتي للإثبات والإيجاب ، نحو : أكرمت زيدا ، أي أوجبت له الكرامة ، وأحسنت إليه ، أثبت الإحسان إليه ، وكذلك أعطيته وأدنيته وأسعدته وأنقذته ، فقد أوجبت جميع هذه الأشياء له ـ فقد تأتي أفعلت أيضا يراد بها السّلب والنفي ، وذلك نحو : أشكيت زيدا : إذا زلت (٣) له عما يشكوه.
أنشدنا أبو عليّ قال : أنشد أبو زيد :
تمدّ بالأعناق أو تلويها |
|
وتشتكي لو أنّنا نشكيها (٤) |
أي لو أننا نزول لها عمّا تشكوه.
__________________
(١) الصمم : انسداد الأذن ، وثقل السمع ، والفعل منه «صم» بالإدغام. اللسان (٤ / ٢٥٠٠). والصدى : ما يرجع عليك من صوت الجبل ، وإسناد الصمم إلى الصدى لتخيل أن الصدى يسمع المتكلم فيجيب ، فإذا لم يجب فكأن به صمما. اللسان (٤ / ٢٤٢٢). واستعجمت الدار : سكتت ، ولذلك عداه بعن ، والمراد أن هذه الدار لم تجب السائل عما يسأل ، وذهبت آثارها التي تدل على أصحابها. مادة (ع. ج. م) اللسان (٤ / ٢٨٢٨).
(٢) فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟ : أسلوب استفهام يفيد التشوق والتقرير.
(٣) زلت : تنحيت له عما يشكوه. اللسان (٣ / ١٨٥٦). مادة (ز. ل. ل).
(٤) نشكيها : ننزع لها عن شكايتها وعتابها. مادة (ش. ك. ا). اللسان (٤ / ٢٣١٤). والراجز هنا يصف إبلا قد أتعبها السير فهي تلوي أعناقها تارة ، وتمدها أخرى ، وتشتكي إلينا ، فلا ننزع لها عن شكايتها. شكواها : ما غلبها من سوء الحال والهزال ، وهذا يقوم مقام كلامها. وبين (تمد ، تلويها) طباق يبرز المعنى بالتضاد ويزيده وضوحا.