فالجواب أن بين الضمة والكسرة من القرب والتناسب ما ليس بينهما وبين الفتحة ، فجاز أن يتكلّف نحو ذلك بين الضمة والكسرة ، لما بينهما من التجانس فيما قد تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب ، وفيما سنذكره أيضا في أماكنه ، وهو مع ذلك قليل مستكره ، ألا ترى إلى كثرة قيل وبيع وغيض (١) ، وقلّة نحو : مذعور وابن بور
ولعلّ أبا الحسن أيضا إلى هذا نظر في امتناعه من إعلال (٢) الواو في مذعور ، وتركها واوا محضة ، لأن له أن يقول إن الحركة التي قبل الواو لم تتمكن في الإعلال والإشمام تمكن الفتحة في الإشمام نحو عالم وقام ، ولا تمكّن الكسرة في قيل وبيع فلما كان الإشمام في مذعور ونحوه عنده والعمل خلسا (٣) خفيا ، لم يقو على إعلال الواو بعده ، كما اعتلت الألف في نحو عالم وقام ، والكسرة في نحو قيل وغيض فلذلك لم تعتلّ عنده الواو في مذعور وابن بور ، وأخلصها واو محضة.
فهذا قول من القوة على ما تراه ، وإن شئت فقل إن الضمة وإن نحي بها نحو الكسرة فلقربها منها وبعدت الفتحة منها فلم يجز فيها ما جاز في الكسرة القريبة : فلما بطل ذلك في الضمة ، حملت الكسرة عليها ، لأنها أختها ، وداخلة في أكثر أحكامها ، ويشهد لهذا القول أنهم أدغموا النون في الميم ، لاشتراكهما في الغنّة والهويّ في الفم ، ثم إنهم حملوا الواو في هذا على الميم ، بأنها من الشفة ، وإن لم تكن النون من الشفة.
ثم إنهم أيضا حملوا الياء على الواو في هذا ، لأنها ضارعتها في المد ، وإن لم تكن معها من الشفة ، فأجازوا إدغام النون في الياء ، فالميم نحو قولهم : من معك؟
والواو نحو قولهم : من وعدت؟ والياء نحو قوله عز اسمه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ)(٤) ، فكما جاز حمل الواو على الميم ، ثم حمل الياء على الواو فيما ذكرنا ،
__________________
(١) وضعنا ضمة فوق كل من القاف والباء والغين للدلالة على إمالة الكسرة نحو الضمة.
(٢) المراد بالإعلال هنا : إشمام الواو رائحة الياء ، وليس قلبها ياء خالصة.
(٣) خلسا : على حين غفلة. مادة (خلس). اللسان (٢ / ١٢٢٦).
(٤) الآية شاهد على إدغام النون في الياء وهذا إدغام بغنة. والحروف التي تدغم مع النون هي حروف كلمة «يرملون» أربعة منها بغنة واثنين بدون غنة. فأما الأربعة فهم : «ي ، ن ، م ، و» ، وأما الحرفين اللذين بدون غنة فهما : «ر ، ل».