فإنّ أولى ما تقترحه القرائح ، وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح ، ما يتيسّر به فهم كتاب الله المنزل ، ويتّضح به معنى حديث نبيّه المرسل ،
______________________________________________________
(فإن أولى ما تقترحه القرائح وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح).
أولى إما بمعنى أحق تقول فلان أولى بكذا ، أي : أحق به ، قال الجوهري : وفلان أحق بكذا ، أي أحرى به وأجدر ، وإما بمعنى أقرب من الولي وهو القرب والدنو ، وتقترحه تسأله من غير روية ، وهو دليل على الشغف البليغ.
والقرائح جمع القريحة ، وهي الطبيعة ، قال الجوهري : القريحة أوّل ماء يستنبط من البئر ، ومنه قولهم لفلان قريحة جيدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع.
وتجنح : تميل ، يقال : جنح يجنح بفتح النون في الماضي والمضارع ، وتحصيل الشيء رده إلى حاصله ، والجوانح الأضلاع التي تحت الترائب وهي مما يلي الصدر ، كالضلوع مما يلي الظهر ، والواحدة جانحة ، وأطلقت هنا على القلوب مجازا مرسلا والعلاقة المجاورة. وفي تقترحه القرائح جناس الاشتقاق ، أو ما يشبهه ، وكذا في تجنح الجوانح ، وفي قوله : أولى وأعلى الجناس اللاحق ، ويجوز ضبط كل من تقترحه وتجنح بالمثناة الفوقية والتحتية ؛ إذا المسند إليه مؤنث غير حقيقي ، لكن الأولى ضبطه بالتحتية فيما يظهر من كلام الجماعة لوجود الفاصلة ، نحو : فمن جاءه موعظة ، وأنا أقول قد تتبعت الواقع من ذلك في القرآن العزيز ، فوجدت المواضع التي لم تلحق فيها علامة التأنيث نحو : خمسين موضعا ، ووجدت الأماكن التي لحقت فيها العلامة تزيد على مائتي مكان منها ، قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ،) [البقرة : ٦١] وقوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] وقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه ، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل أفصحيته ، فالأولى عندي ضبط ذلك وأمثاله بالمثناة الفوقية.
(ما يتيسر به فهم كتاب الله تعالى المنزل ويتضح به معنى حديث نبيه المرسل) يتيسر ، أي : يسهل. ويتضح ، أي : يتبين ، ويظهر.
والمعنى في الأصل مصدر تقول : عني زيد بلفظة كذا عناية ، ومعنى ، ومعناة ، ثم يستعمل مرادا به المفعول ، أي : المعني بتشديد الياء ، كما في قولهم : هذا الثوب نسج فلان ، أي منسوجه.
__________________
وأخرجه الطبراني في الأوسط ٣ / ٣٣٨ ، وفي الصغير ١ / ١٩٩ ، والديلمي في مسند الفردوس (١٦٩٢) ١ / ٤١٨.