وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا ، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهرا (١) ، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين.
وكانوا يسمّون ذلك النّسيء. وكانت سنة النّسيء ثلاثة عشر شهرا قمريّة. وكانت شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة ، كان لكلّ (٢) شهر منها زمن معلوم لا يعدوه. فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النّسيء ، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك ، وحرم العمل به ، فقال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)(٣). وقال عزوجل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ)(٤). فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهرا قمريّة دائرة في الأزمنة الأربعة.
__________________
(١) أشار إلى ذلك أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية ٦٢ وأوضحه ، قال «وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام (أي الشهور). وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك ، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة ، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها. فتعلموا الكبس من اليهود المجاورين لهم (أي في يثرب كما ذكر في القانون المسعودي). وذلك قبل الهجرة بقريب من مائتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرا بشهورها إذا تم .. ويسمون هذا من فعلهم النسيء ، لأنهم كان ينسئون أول السنة في كل ستين أو ثلاث شهرا ، على حسب ما يستحقه التقدم». وانظر أيضا الآثار الباقية ١١ ـ ١٢ ، ٣٢٥ ، والقانون المسعودي ٩٢ ، ١٣١ والتفسير الكبير لفخر الدين الرازي ٤ / ٤٤٧.
هذا وقد أنكر المستشرق الأستاذ كرلونلين الإيطالي مسألة النسيء بمعنى كبس الشهور عند العرب لموافقة السنة الشمسية ، وناقش الآراء والروايات الوارد بذلك ، وردها كلها. ومنها آراء أبي الريحان البيروني ، في كتابه «علم الفلك ، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى»
وقال نلينو : (ص ٩٢ ـ ٩٣) «فلا مرية أن هذه الأخبار بوجود الكبس وكيفيته عند عرب الجاهلية جميعها من باب مجرد الظن والتخمين ، ذهب إليه الفلكيون في عهد لم يقف فيه أحد على حقيقة النسيء. وقال أيضا في آخر كلامه على هذا الموضوع (ص ١٠٤): «فاتضح مما تقدم أن معرفة حقيقة النسيء قد اندرست تماما نحو منتصف القرن الأول للهجرة ، كما اندرست معرفة غيره من آثار الجاهلية».
وانظر الصفحات ٨٧ ـ ١٠٤ من كتاب نلينو المذكور ، ففيه تفصيل وبيان يحسن الاطلاع عليهما :
(٢) في الأصل المخطوط : كل ، وهو غلط.
(٣) تمام الآية : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، يُحِلُّونَهُ عاماً ، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ ...) سورة التوبة ٩ / ٣٧.
(٤) تمام الآية : «..... فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ ٩ أَنْفُسَكُمْ ...» سورة التوبة ٩ / ٣٦.