واتفق أن بعض زوار الأوروبيين في الأرض المقدسة شاهدوا شيئا من العنف في بيت المقدس لم يكن لهم عهد به في أدوار الحكومات العربية القوية ، وانقلبت سماحة العرب بجفاء من خلفوهم من التركمان ، فعاد الزوار الى ممالكهم يقصون ما لقوا من الشدة في الشام ويعظمون الأمر ، وكان التعصب الديني يومئذ على أشد حالاته في الغرب ، ومعظم حكوماته تدين بدين البابا وتخضع لسلطانه القاهر ، ولم يكن ظهر إذ ذاك المذهب الإنجيلي ، وكان مذهب الروم الأرثوذكس آخذا بالضعف ليس له روابط الكنيسة البابوية ولا سلطتها على الأرواح والأشباح ، فأوعز البابا الى أمم النصرانية في الغرب ليهبوا كلهم الي إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين. وقد ذكر أهل الأخبار من الأوروبيين في تعليل الحروب الصليبية ، أن المسيحيين والمسلمين كانوا حتى القرن الحادي عشر للميلاد على صلات سلمية إلا قليلا، يحمل العرب الى مصر والقسطنطينية حاصلات مختلفة من بلاد الهند والشرق الأقصى ، فتستبضعها من المدن الإيطالية باري وبيزة وجنوة وأمالفي والبندقية فيبيعونها في أوروبا. وكان العرب يسمحون للزوار أن يأتوا زرافات الى فلسطين ، فيشخص إليها جماهير عظيمة من عامة نصارى الغرب يسجدون أمام القبر المقدس. وتضاعفت الحماسة الدينية في ذاك الزمن وتداعى الحكم العربي القائم على التسامح في قارة آسيا ، وقام مقامه المحاربون من الترك المعروفين بتعصبهم وبسالتهم. فاستولى السلجوقيون على أرمينية والشام ونيقية ودانت لهم في سنة (٤٦٩ ه ١٠٧٦ م) القدس فاختلت العلائق الاقتصادية بين آسيا وأوروبا ، وخافت المدن التجارية في البحر المتوسط أن يغلق الأتراك أمامها أسواق الشرق.
نعم نشأت الحملة الصليبية الأولى من الحماسة الدينية بصنع البابوية التي كانت إذ ذاك الحاكمة المتحكمة في كل شيء. ولقد تأثر البابا أوربانوس الثاني بشكاوي الزوار القادمين من فلسطين. وقلق للارتقاء المخوف الذي بلغه المسلمون في الأندلس ، ولا سيما عقبى وقعة الزلاقة سنة (٤٨٠ ه ١٠٨٧ م) وقد أثبت العرب فيها كفاءتهم الحربية ، كما أثبتوا من قبل ومن بعد كفاءتهم المدنية ، واغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم الذي التأم في مدينة